قام علم
التاريخ عند العرب على الرواية الشفهية، وذلك لإنتشار الأمية قبل الإسلام، ولطبيعة
المجتمع البدوي في بلاد العرب، وما كان يسوده من مفاخرة القبائل، والأفراد بحسبها،
ونسبها، ومغازيها، فقد حرص العرب على رواية مفاخرهم، ومفاخر قبائلهم شفاهيتا،
فكانت الرواية الشفهية تنقل الأحاديث من جيل لأخر لتوصل الحاضر بالماضي، وعرفت
أخبار العرب الذين يسكنون القسم الشمالي من شبه الجزيرة العربية باسم (أيام العرب)
والتي تحكي أحاديث المعارك والحروب بين القبائل المختلفة، وعلى الرغم من احتواء
بعض هذه الأخبار على الأساطير والخرافات إلا أن كان لها تأثير عظيم في نشأة علوم التاريخ
عند العرب، ولما قدم الإسلام لم يقض على هذه المؤلفات بل استمد منها المؤرخون
المسلمون الكثير عن أنساب العرب ( [1] ).
عرفت الرواية لغة في القاموس المحيط: أنها من مادة روي
فصل الراء باب الواو والياء –روي من الماء واللبن– ( [2] ). فيقول الأصمعي
( [3]
): "رويت على أهلي أروي ريا" ، فيقصد من ذلك تشبيه الذي يأتي قومه
بالعلم كمن يرويهم بالمياه ، وقال رسول الله –صلى الله عليه وسلم–: "إِنَّ
شَرَّ الرَّوَايَا رَوَايَا الْكَذِبِ، أَلا وَإِنَّ الْكَذِبَ لا يَصْلُحُ مِنْهُ
جَدٌّ وَلا هَزْلٌ ..... ". ( [4]
)، ومن ذلك يتبين لنا أن معنى الرواية في اللغة النقل، أو الإسقاء بالماء. كما عرفت الرواية اصطلاحا: حمل الحديث (الكلام)،
وإسناده إلى صاحبه بصيغة من صيغ الأداء مثل أخبرنا وحدثنا وسمعت وعن فلان ونحوها (
[5]
).
قسم العلماء الرواية أولا إلى قسمين وهما: متصلة ومنقطعة،
فالمتصلة: أن يسمع كل راو ممن فوقة مباشرة، أما المنقطعة فهي غير ذلك، وقسموها
ثانيا إلى: رواية باللفظ ورواية بالمعنى، فالرواية باللفظ تعني:
أن ينقل الراوي لفظ المروي عنه دون تحريف، أما الرواية بالمعنى فهي: أن ينقل
الراوي عن راويه بألفاظ من عنده ولكن تحمل نفس المعنى، ولكن هذا النوع منعه
الأصوليين والفقهاء ( [6]
).
من الأشياء التي أختص الله بها هذه
الامة الرواية بالسند المتصل إلى النبي –صلى الله عليه وسلم–، وقد وردت آثار كثيرة
في فضلها، ومنها ما أخبر به الخطيب البغدادي ( [7] ) بسنده إلى
الإمام مالك عن تفسير قول الله تعالى:" وَإِنَّهُ لَذِكْرٌ لَّكَ
وَلِقَوْمِكَ " ( [8]
). قال: قول احدكم حدثني بي عن جدي، وما
أخبره أبا بكر محمد بن أحمد " أن الله –عز وجل– خص هذه الأمة بثلاثة أشياء،
لم يخص بها أمة من قبل وهي: الإسناد والإعراب والأنساب ". وقد تمناها الخلفاء
لأهميتها، وغير المحدثين من العلماء، فلو نظرنا إلى الأمم السابقة نرى أنه قد
أخطلت أخبارهم بكتبهم، وليس عندهم أي تمييز فيما أنزل اليهم من التوراة والإنجيل،
بما الحقوا به كتبهم من التحريف لأنهم أخذوا من غير أهل الثقات، أما هذه الأمة
فإنها تأخذ عن أهل الثقة والأمانة المشهود له بها في زمانة، ويكفي أهل الرواية فخرا أن اسمهم مقترن
باسم نبي الله –صلى الله عليه وسلم–، وأن ذكرهم كان في سلسلة مقدمتها ذكر رسول
الله –صلى الله عليه وسلم– ( [9]
).
وجدت الرواية في الأمم السابقة كالرومان
والفرس واليونان، فقد اعتمدوا عليها في نقل أنساب الهتهم وسير أبطالهم، وأشعارهم،
وملاحمهم المشهورة، إلى غير ذلك من السبل التي نشدوها لربط حاضرهم بماضيهم، ومن
أشهر مؤرخي الرومان واليونان "توسيد يد ( [10] )" و "هيرودوت(
[11]
)" ، الذين كتبوا التاريخ في عصرهم، ومن أشهر شعرائهم "هوميروس"
الذي كتب الإلياذة والأوديسة( [12]
)، فقد فضل سقراط اليوناني( [13]
)، الرواية الشفهية على الكتابة التاريخية حيث نقل عنه أنه قال: إنه يكره أن تدون
أفكاره على جلود البقر والحيوانات الميتة بدلا من أن تطبع في قلوب الأحياء ( [14]
).
يقول محمد أبو شهبة : إن هذه الأمم لم
تبلغ من الرواية الشفهية ما بلغته الأمة العرب، فقد كان الرومان، واليونان، والفرس
أهل حضارة، وعلى علم بالقراءة والكتابة، أما أمة العرب كانوا أقرب للبداوة ولا
يعرفون القراءة والكتابة، والأمي يعتمد على ذاكرته فتنمو وتقوى لتسعفه حين الحاجة،
كما أن بساطة عيشهم وبعدهم عن الحضارة ومشاكلها جعلهم أصحاب أذهان صافية وكانوا
يحبون التفاخر بالأنساب، والتنابذ بالألقاب، فقد كان الشعر يعتبر ديوانهم، والشاعر
هو لسان القبيلة الذي يتغنى بفضائلها ،ويزود عن عرضها وهو يمثل دور وسائل الأعلام
في عصرنا الحالي، ولذلك فقد كان أعظم شيء عندهم ولادة شاعر جديد، لقول ابن رشيق في
مؤلفه العمدة " كان العرب لا يهنئون إلا بصي يولد، أو شاعر ينبغ، أو فرس تولد
"، وما كان الشعر يدون وقتها في الكتب، و إنما كان الاعتماد على الرواية
الشفهية فيروي الخلف عن السلف، ومن ذلك يتبين لنا أن العرب في الجاهلية كانوا
يعتمدون على الرواية الشفهية في حفظ أنسابهم وأشعارهم وأيام حروبهم وملاحمهم،
وكانت هذه من فضائل العرب على باقي الأمم فقد حفظوا كتاب الله –عز وجل– وسنة نبينا
محمد –صلى الله عليه وسلم– وتبليغهما للناس عامة ( [15] ).
برزت الرواية الشفهية عند عرب الجنوب،
وكان من روادها وهب بن منبه، وعبيد بن شريه الجرهمي اليمني (ت 70هـ)، فلما استدعى
معاوية بن أبي سفيان –رضي الله عنه– شريه، ليخبره عن ملوك
اليمن، وأهل العرب، والعجم، ومن خلال أسئلة معاوية وأجوبة شريه وصلنا مؤلف
"أخبار عبيد بن شريه في أخبار اليمن، وأنسابها، وأشعارها"، ولذلك يقول
المسعودي ( [16]
) في وصف معاوية: "أنه كان يستمر إلى
ثلث الليل في أخبار العرب وأيامها، والعجم وملوكها، وسياستهم لرعاياهم..."،
كما أهتم معاوية –رضي الله عنه– بالنسابين، فقد استدعى دغفل بن حنظلة السدوسي (ت 60هـ)
–وهو من أشهر النسابين–، ويروى أن كتابه "النسابة التظافر والتناصر" هو
عبارة عن مجالس وأسمار تروى في مجلس الخليفة معاوية الذي كان محبا لذكر أحاديث من
مضى من الرجال، واستدعى ايضا أبا الشطاح اللخمي، وكان من النسابين، والرواة،والعلماء ( [17] ).
وايضا من أشهر النسابة العرب في صدر
الإسلام: محمد بن مسلم بن شهاب الزهري (ت 124هـ)، ويعتبر من أعظم مؤرخي المغازي؛ فقد
أسس مدرسة التاريخ في مدينة رسول الله، وأمره خالد بن عبدالله القسري بكتابة مصنف
عن القبائل العربية الشمالية، ومن أشهر مؤلفاته كتاب "أسنان الخلفاء"
الذي سرد فيه تاريخ وفاة الخلفاء وإنجازاتهم وأعمارهم عند الوفاة ( [18]
)، ومحمد بن السائب الكلبي (ت 146هـ)، وهشام بن محمد بن السائب الكلبي (ت 204هـ)،
الذي أعتبر من أعظم النسابة فقد قال ابن قتيبة عنه: "كان هشام أعلم الناس
بالأنساب، أخذ هذا العلم من أبيه" وترك لنا مؤلفة "جمهرة النسب"
الذي عني فيه بنسب القبائل العدنانية وقبائل قحطان( [19] ).
يرى البعض أن الرواية الشفهية هي: نقل
القران وعلومه، والحديث، والتفسير ،والتاريخ الإسلامي من راو لآخر عن طريق السند
بالمشافهة ، وقد تميزت الرواية الشفهية في الإسلام باهتمام المسلمين بتصحيح
الأخبار، ومطابقتها للواقع، والبحث عن صدقها، والتحري عن رواتها، فقد نشأ علم
الجرح والتعديل، وذلك لما كان للمرويات الإسلامية من القداسة والحرمة، يقول الله –عز
وجل– "يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنْ جَاءَكُمْ فَاسِقٌ بِنَبَإٍ
فَتَبَيَّنُوا أَنْ تُصِيبُوا قَوْمًا بِجَهَالَةٍ فَتُصْبِحُوا عَلَى مَا
فَعَلْتُمْ نَادِمِينَ"( [20]
) ، وروي في الصحيحين أن الرسول –صلى الله عليه وسلم– قال: "إنَّ كَذِبًا
عَلَيَّ لَيْسَ كَكَذِبٍ عَلَى غَيْرِي , فَمَنْ كَذَبَ عَلَيَّ مُتَعَمِّدًا فَلْيَتَبَوَّأْ
مَقْعَده مِنْ النَّار"( [21]
) ، وفي صحيح مسلم عن رسول الله –صلى الله عليه وسلم– أنه قال: " يكونُ في آخِرِ الزمانِ
دَجَّالُونَ كَذَّابُونَ. يأتونَكم من الأحاديثِ بما لم تَسْمَعُوا أنتم ولا آباؤُكم.
فإيَّاكم وإيَّاهم. لا يُضِلُّونَكم ولا يَفْتِنُونَكم "( [22]
).
فالقرآن الكريم ثابت بالتواتر في نسبته إلى الله
–جل وعلا– فلا مجال للشك فيه. لذلك كان لابد من أن يتأكدوا من صحة نسبة الأحاديث
إلى الرسول –صلى الله عليه وسلم– فوضعوا للرواية الشفهية عن الرسول –صلى الله عليه
وسلم– شروطا وقواعد للنقد هي من أدق سبل النقد والتحقيق حديثا وقديما. فقد عني
علماء الحديث بعلم الإسناد ونقد الرواة وميزوا الصحيح منه والضعيف، فيقول سفيان
الثوري ( [23]
) "الإسناد سلاح المؤمن" ،
ويقول "الذي يطلب الحديث بلا إسناد مثله كمثل خاطب ليل"، ولولا هذا التدقيق
والنقد لوجد أعداء الإسلام والزنادقة السبل لإفساد الدين وتحريف صحيح الحديث.( [24]
)
هناك عدة صفات لابد وأن تتوافر في راوي
الحديث وهي: الاحتياط والحذر من أن يضاف للحديث ما ليس فيه، ومن هنا انشغل علماء
الحديث بالتفتيش عن حال الرواة وبيان أحوالهم، فإن العلماء لم يجيزوا من الحديث
إلا ما تحقق من صوابه، فقد قال أبو حنيفة: "لا يحل للرجل أن يروي حديث رسول الله –صلى
الله عليه وسلم– إلا إذا سمعه من فم المحدث فيحفظه، ثم يحدث به" وقال مالك:"لا يؤخذ العلم ممن لا يعرف ما
يحدث به" ( [25]
)، ومن ذلك يتبين لنا أن الرجل قد يكون عالما بالأنساب والمغازي والأخبار ولا
يجارى في علمه، غير أنه لا يثبت أمام النقد، فخير مثال لهذا: أبو مِخْنَف لُوْط
ابن يحيى بن سعيد ( [26]
) وهو الذي ينقل عنه الطبري مصنف"
تاريخ الرسل والملوك "، فقد قال فيه أبو حاتم الرازي( [27] ): "متروك
الحديث"، و الواقدي الذي أشتهر بأنه بصيراً بالمغازي، قال فيه الإمام البخاري:
"منكر الحديث". ومن ذلك يتضح لنا أن منهج المحدثين في نقد الرواة والروايات
هو أدق المناهج وأسماها، وأن الذين تنافسوا معهم من كتاب السير والمؤرخين، لم
يبلغوا شأنهم، وذلك لأن المصنفين في علم الحديث ينظرون إليه على أنه تشريع ودين،
فالتفريط في روايته تفريط في الدين، أما المصنفون في التاريخ واللغة والأدب لم
ينظروا إلى مؤلفاتهم بهذه النظرة، وإنا لنلاحظ هذا في صنيع الطبري فهو في مؤلفه
"التفسير" يتحرى ويدقق في الرواية أكثر مما صنعه في مصنفه "تاريخ الرسل
والملوك" وهذا يرجع إلى اختلاف الاعتبارين. ( [28] )
ثانيا: مذاكرة الحديث: وهي منهج سار
عليه الصحابة –رضي الله عنهم– ، فقد كانوا يتذاكرون الحديث بعد سماعه من الرسول
حتى يحفظوه، فقد قال الصحابي الجليل أنس بن مالك –رضي الله عنه–: " كنا
قعوداً عند رسول الله –صلى الله عليه وسلم– وكنا ما يقارب الستين رجلاً فيحدثنا
رسول الله الحديث ، ثم يريد الحاجة ، فنذكره بيننا حتى نقوم وكأنه زرع في صدورنا
"، يقول الرفاعي عن ابن دحية: أنه انفرد بحفظ حواشي اللغةوالأسانيد، فلما قدم إلى مصر في أيام
الملك الكامل الأيوبي، جمع علماء الحديث له أحاديث بأسانيد قد حولوا متونها
ليختبروا مدى دقة حفظه، فأعاد ابن دحية المتون المحولة إلى أصلها، وذكر الأحاديث
الصحيحة بمتونها وأسانيدها، وكان هذا مشابها لاختبار علماء بغداد للإمام البخاري. ( [30]
)
ثالثا: ألقاب المحدثين:
فقد أطلق العلماء على من يشتغل بعلوم الحديث ألقاباً عديدة منها: المحدث أو المسند أو الحافظ أو
الحجة أو الحاكم، أمير المؤمنين، ورابعا: شروط من تقبل روايته: الضبط والعدالة،
فقال ابن الصلاح: " أجمع علماء الحديث والفقه على أنه يشترط فيمن يستدل
بروايته أن يكون ضابطا عدلا" ( [31]
)، ويقصد بالعدالة : أن يكون راوي الحديث مسلماً عاقلاً بالغاً يخلو من خوارم
المروءة ويخرج بهذا الشرط رواية المجنون والكافر والطفل الصغير و الفاسق، ويقصد
بالضبط: أن يكون راوي الحديث متيقظاً، ضابطاً لكتابه، وإذا كان محدثا بالمعنى اشترط فيه أن يكون عالماً بالمعاني واللغة.( [32]
)
خامسا: ملازمة الشيوخ المحدثين لفترات طويلة:
وقد أعطوه العلماء أهمية كبيرة عن باقي الضوابط، ولذلك نلاحظ أن بعض رواة الحديث
كان لا يرضى بأن يتلقى الحديث من شيخه مرة واحدة، فقد رافق ثابت
البناني ( [33]
) الصحابي الجليل أنس بن مالك –رضي الله عنه– أربعين عاما، حتى أصبح أكثر الناس
معرفة بالأحاديث التي رواها أنس.
سابعا: عدم تغيير لفظة مكان لفظة لا تحقق
معناها فمثلا: قول عبيد بن عمير عن رسول الله –صلى الله عليه وسلم–: "مثل المنافق كمثل الشاة الرابضة
بين الغنمين". فقال عبد الله بن عمر –رضي الله
عنه–: ويحكم
لا تكذبوا، إنما قال رسول الله –صلى الله عليه وسلم–:" مَثَلُ الْمُنَافِقِ كَمَثَلِ
الشَّاةِ الْعَائِرَةِ بَيْنَ الْغَنَمَيْنِ؛ تَعِيرُ إِلَى هَذِهِ مَرَّةً
وَإِلَى هَذِهِ مَرَّةً " ( [34]
)، والمقصود من ذلك أن لفظ الرابضة لا تعطي معنى العائرة، ثامنا: وهو أن يؤخذ حفظ الراوي
عن العلماء لا من الصحف، وتاسعا: إتقان الحفظ كحفظ القرآن الكريم ( [35]
)، وفي الأخير السؤال عن مصدر كل معلومة، فقد قال بن عروة: "إذا حدثك رجل
بحديث فقل عمَّن هذا؟ فإن الرجل يحدث عن آخر دونه في الإتقان والصدق" ( [36]
).
لم تسلم
روايات ابن دحية من النقد فقد قال سبط ابن الجوزي: "كان ابن دحية في المحدثين
مثل ابن عنين في الشعراء يقع في أئمة الدين، ويزيد في الكلام؛ فترك الناس رواياته
وكذبوه، ولما انكشف أمره للكامل، أخذ منه دار الحديث وأهانه"، ويقول عباس
العزاوي في ذلك: لا نريد أن ندافع عن أحد أمام أحد، لكن النقد الموجه لابن دحية
شخصي ومليء بمنافسة دنيوية، أو اختلاف مذهبي، فقد سبق سرد أقوال العلماء والفقهاء
في حق ابن دحية، وقد أجمعوا على أنه محدث عظيم يعد بين أكابر المؤلفين والأدباء،
وفيما يخص مرجعيته التاريخية فقد ذكر: أنه لم يعدل في إيراد المراجع في المواطن
التي تلتبس فيها الظنون، إلا أن قوة إفادته، وقدرة بيانه، وتمكنه من اللغة،
وتلاعبه بفنون البلاغة حبب أسلوب كتاباته للقراء"( [37]
).
وفي الدراسات
التاريخية الحديثة انقسمت اراء العلماء تجاه الرواية الشفوية إلى منهجين: الأول:
يقول بأن الرواية الشفهية تتعرض للتحريف المستمر، والنسيان، ويرى هذا الجزء أن
الرواية المكتوبة أفضل من المشافهة، وإذا لزم الأخذ منها فنلزم الحذر مع تدعيمها
بالمؤلفات التاريخية المكتوبة، ويرى الجزء الثاني: أن دراسة التاريخ تتسم
بالشمولية، ويجب عدم التركيز على حياة الزعماء والمواقف الرسمية، بل نشمل كل جوانب
المجتمع، والواقع أن معظم الدراسات التاريخية تركز على المواقف الرسمية وحياة الزعماء،
وتهمل المواقف الشعبية، وفي مؤلفات كثيرة عبر العصور وصفت حركات الشعوب بالغوغائية
لخروجها على مصالح الحكام، مما عرضهم للقتل والتعذيب ( [38]
).
احتلت الرواية الشفهية مكانة عظيمة في
رحلة ابن دحية العلمية، فقد سمع عن الكثير من العلماء والفقهاء المعاصرين له، وقد
سبق ذكر بعض منهم، وأشتهر برواية الحديث حتى قال ابن عبد الملك في حقه:"كان
راوية للحديث، شديد العناية بمجالسة المشايخ والتعلم منهم، جيد الخط، محكم
التقييد، متسع الرواية، حافظا للآداب، ذاكرا تواريخ المحدثين وأخبارهم"، وقال
الإمام الذهبي ايضا في وصفه لابن دحية: "كان حافظا، معتنيا بالحديث "،
وقد سمع منه علماء كثيرون منهم: أبو عمرو بن صلاح، وقد سمع منه كتاب
"الموطأ" سنة 600 هجريا، وأبو عبدالله محمد بن سعيد الدبيشي صاحب مصنف
"التاريخ المذيل على تاريخ بغداد"، وأجاز الكثير منهم: عمر بن محمد
الفارسي، وأبي الحسين اليونيني، وابن الأبار ( [39]
).
يقول د. حسام الدين إبراهيم عن مدينة
بغداد في موسوعته مدن حول العالم: "هي عاصمة العراق ومن أكبر مدن الشرق
الأوسط، وتمتاز عبر التاريخ بأهميتها الثقافية،
ويوجد بها الكثير من المعاهد
والجامعات، ويوجد بها العديد من الآثار والنقوش القديمة التي تخص الحضارة البابلية
والإسلامية وعصور ما قبل التاريخ مثل: سور بغداد ومقر المعتصم (الخليفة العباسي)،
ودار الخلافة، ومسجد المعتصم الشهير، ويعد نشاطها الرئيسي تكرير النفط ( [40]
).
يقول ابن دحية في كتابه "المطرب من
أشعار أهل المغرب": لقيت بغرناطة الوزير محمد بن أبي العافية (ت 584هـ)، وكان
من فحول الشعراء، ورواة الحديث، فقد سمع صحيح مسلم على الحافظ أبي محمد بن أبي
جعفر (فقيه شرق الأندلس) (ت 562هـ)، وقرأ على الأديب يونس بن أبي عيسى الخباز، وله
من الأدب والشعر الكثير، فقد سمع منه ابن دحية وأجازه في الكثير، ويقول ذو النسبين:
وقد أدركت مجموعة من رفاق أبي الحسين بن سراج (ت 508هـ)، ورحلت إلى أم بلاد
الأندلس (مدينة قرطبة) عام 574 هجريا، فلقيت بها أبو القاسم بن بشكوال، فأخذت عنه
من العلم الغزير وقرأت عليه كتاب "الصلة"( [41] ).
يقول د. حسام الدين إبراهيم في وصف
مدينة قرطبة: أنها تقع على بعد 138 كم شرق مدينة صقلية، وهي تقع بدولة إسبانيا،
كانت عاصمة الأندلس قبل أن يفتحها المسلمين، حتى أن اتخذها الخليفة الأموي
(عبدالرحمن الثالث) عاصمة لخلافته، فقد كانت ذات أهمية كبيرة وكان بها دار الخلافة
( [42]
).
يقول
ابن النجار (ت 643هـ) عن شيخه ابن دحية: أنه سمع مرات عديدة من عبد الرحمن بن
الجوزي وهو صاحب مؤلفات كثيره منها "زاد المسير في علم التفسير"
و"المنتظم"، وأملاء ابن دحية كتاب الصلة لابن بشكوال على البغاددة، ودون
المسند لأحمد، وسمع من الإمام الصيدلاني بأصفهان، وذهب إلى خرسان وأخذ العلم من
شيوخها ومن أبرزهم منصور الفراوي والإمام الحافظ أبي سعيد عبدالله بن عمر ابن
الصفار و الإمام أبي المكارم احمد بن محمد بن عبدالله (اللبان)، وعاد إلى بغداد
وأملى عليهم "معجم الطبري" الذي حوا أكثر من ستين ألف حديث، كما زار
مدينة واسط وسمع من محمد بن أحمد الميداني ( [43] ).
[1] ) ) سيدة إسماعيل كاشف، مصادر التاريخ
الإسلامي ومناهج البحث، ط1 ، دار الرائد العربي بيروت، 1983م،
ص17-18.
[2] ) ) مجد الدين محمد بن
يعقوب الفيروز آبادي، القاموس المحيط، تحقيق : محمد نعيم العرقسوسي، ط8 ،مؤسسة
الرسالة بيروت،
2005م، ص1290.
[3] ) ) الأصمعي: أبو سعيد عبد الملك بن قريب بن عبد
الملك بن علي بن أصمع ، الإمام العلامة الحافظ ، لسان العرب ،
حجة الأدب، ولد سنة بضع وعشرين ومائة، حدث عن الكثير منهم: ابن عون، وسليمان التيمي، وقرة بن خالد، ومسعر
بن كدام،
وعمر بن أبي زائدة، وشعبة، وبكار بن عبد العزيز بن أبي بكرة، وشبيب بن شيبة،
لكنه قليل الرواية للمسندات، وحدث عنه الكثير
منهم: أبو عبيد، معين، وإسحاق بن إبراهيم الموصلي، وزكريا
بن يحيى المنقري، وأبو الفضل الرياشي، ونصر بن علي
الإمام الذهبي، سير أعلام النبلاء، الجزء العاشر، ط1( مرجع سابق)، ص176-181.
[7] ) ) الخطيب
البغدادي: أحمد بن علي بن ثابت بن أحمد بن مهدي البغدادي، ولد سنة اثنتين وتسعين
وثلاثمائة، وكان أبوه خطيبا برزيجان،
فحض والده على السماع والفقه مبكرا،
فسمع وهو في سن الحادية عشر، حدثه عن الكثير ومنهم أحمد بن إبراهيم البلدي وأبا القاسم
الحسن بن الحسن بن المنذر، وأبا نصر
أحمد النرسي، وأبا الفتح هلال بن محمد الحفار، وأبا العلاء محمد الوراق، وسمع
للكثير من
علماء عصره منهم: أبا الحسن بن عبد كويه
بأصبهان، وقال السلفي في حقه: " سألت الذهلي عن الخطيب،
فقال: إمام مصنف
حافظ، لم ندرك مثله". ويقول أيضا أبو علي البرداني: حدثنا أبو بكر الخطيب، وما رأيت مثله،
ولا أظنه رأى مثل نفسه. وهذا
الجزء من مؤلف:
الإمام الذهبي، سير أعلام النبلاء، ج18،
(مرجع سابق)، ص40
[9] ) ) الخطيب البغدادي ، شرف أصحاب
الحديث، تحقّيق: أبو عبد الرحمن محمود ، ط1، المكتب الإسلامي بيروت ،1414 هـ ،
ص39 – 40.
[10] ) ) توسيد يد: مؤرخ إغريقي ولد بمدينة
أثينا عاش في الفترة بين 465 و 395 قبل الميلاد، كان حاكما عسكريا وشارك في حرب
البليبونيز والتي دارت بين أسبرطة وأثينا وكتب تاريخها. هذا الجزء من مؤلف:
حسين حمادة، تاريخ العلوم عند العرب، ط1، دار الكتاب اللبناني،1987 م، ص22
[11] ) ) هيرودوت: مؤرخ إغريقي يوناني آسيوي، ولد في
بلدة هليكرناسوس وعاش في الفترة بين 484 و 425 قبل الميلاد، زار بلاد كثيرة
منها ليبيا وإيطاليا وصقلية، وترك كتاب تاريخ
هيرودوتس الذي يصف فيه أحوال البلاد والمعارك التي عاصرها، ومن أشهر
مقولاته: "من ليبيا يأتي الجديد". هذا
الجزء من كتاب:
مصطفى النشار، فلسفة التاريخ، ط1، الأمل
للطباعة والنشر ،2004 م، ص78
[12] ) ) الإلياذة والأوديسة: كتبهما هوميروس، فالإلياذة هي ملحمة شعرية تحكي حرب طروادة التي حدثت في 700 ق.م، والأوديسة هي
أيضا ملحمة شعرية بدأت بعد الإلياذة كتكملة لها، وألفت في نهاية القرن
الثامن قبل الميلاد. هذا الجزء
من كتاب:
ثروت عكاشة، الإغريق بين الأسطورة والإبداع، ط1، دار المعارف القاهرة ،1978 م، ص201.
[13] ) ) سقراط: فيلسوف يوناني، عاش في الفترة من 469-399 ق.م، يعتبر أحد مؤسسي الفلسفة الغربية، ينسب
إليه المنهج السقراطي
التهكمي، من أشهر تلامذته أفلاطون، أهتم
بالأخلاق وزرع الفضيلة في تلاميذه، وكان كثير الأسئلة قليل الأجوبة.
هذا الجزء من
كتاب:
محمد ممدوح، سقراط واغتيال
العقل، ط1، دار روابط للنشر،2018 م، ص85-90.
[16] ) ) المسعودي: هو بو الحسن علي
بن الحسين بن علي، وكان أخباريا ،صاحب غرائب وفنون ، ومن أشهر مؤلفاته "مروج الذهب"،
وتوفي سنة 345 هجريا. هذا الجزء من كتاب:
الإمام الذهبي، سير أعلام النبلاء، الجزء العشرون،
(مرجع سابق)، ص568.
[17] ) ) أبي الحسن بن علي المسعودي، مروج الذهب
ومعادن الجوهر، الجزء الثالث، ط1 ، دار السعادة مصر، 1958م، ص41-42.
[23] ) ) سفيان الثوري: هو سفيان بن سعيد بن
مسروق بن حبيب بن رافع بن عبد الله بن معد بن عدنان، ولد بالكوفة سنة
سبع وتسعين
هجريا، وله مؤلفات كثيرة من أشهرها كتاب "الجامع"، يقال أن عدد شيوخه فاق الستمائة شيخ،
وكبارهم حدثوه عن أبي هريرة،
وجرير، وابن عباس، وتوفي سنة ست وعشرين
ومائة. هذا الجزء من كتاب:
الإمام الذهبي، سير أعلام النبلاء، الجزء السادس، (مرجع سابق)، ص230-234.
[25] ) ) الحاكم ، المدخل إلى معرفة كتاب الإكليل، تحقيق: أحمد بن فارس السلوم، ط1، دار بن حزم بيروت ،2003 ، ج2، ص187.
[26] ) ) أبو مخنط لوط ابن يحيى بن سعيد: ولد بالكوفة، وتوفي سنة 157 هجريا، ل مؤلفات عديدة
منها كتاب الردة، وفتوح العراق،
ومؤلف صفين، والنهروان، إلا أنه كان يروي عن مجهولين، فقال يحيى بن معين في حقه: ليس بثقة، وقال
أبو حاتم في حقه: متروك
الحديث. وقال الدار قطني عن أبي مخنط:
أخباري ضعيف. هذا الجزء من كتاب:
الإمام الذهبي، سير أعلام النبلاء، الجزء السابع، (مرجع سابق)، ص302.
[27] ) ) أبو حاتم الرازي: هو محمد بن إدريس
بن المنذر بن داود بن مهران، ولد سنة 195 هجريا، وتوفي سنة 277 هجريا، قال الحافظ
عبد الرحمن بن خراش في حقه: كان الرازي من
أهل الأمانة والمعرفة. هذا الجزء من كتاب:
الذهبي، سير أعلام النبلاء، الجزء الثالث عشر، (مرجع سابق)، ص247-252.
[29] ) ) ابن الصلاح، علوم الحديث، تحقيق نور الدين
عتر ، ط1، دار الفكر المعاصر – بيروت، 1986، ص130-190.
[30] ) ) مصطفى صادق الرفاعي، علوم الحديث، تاريخ أدب
العرب، ط1، مؤسسة هنداوي للتعليم والثقافة، 2013م، ص260.
[33] ) ) ثابت بن أسلم
البناني: ولد في خلافة
معاوية وحدث عن الكثير من الصحابة منهم عبدالله بن عمر و
عبدالله بن الزبير وأنس بن مالك،
وتوفي سنة سبع
وعشرين ومئة، يقول في حقه شعبة: "كان ثابت البناني يقرأ القرآن في كل يوم
وليلة ويصوم الدهر" ويقول جعفر:"
أخبرنا محمد بن ثابت البناني قال: ذهبت
ألقن أبي وهو في الموت فقلت: يا أبت قل لا إله إلا الله فقال: يا بني خل عني فإني
في
وردي السادس أو السابع". هذا الجزء من مؤلف:
أبو الفرج الجوزي، صفة الصفوة، ط1، دار الحديث القاهرة، 2000 م، ج2، ص155.
[36] ) ) محمد ضياء الرحمن
الأعظمي، دراسات في الجرح والتعديل، ط1، مكتبة الغرباء الأثرية، 1995 م ،ص240.
[38] ) ) لانجلو أوسينويوس وبول ماس وامانويل كنت ، النقد التاريخي، ترجمة: عبدالرحمن بدوي، ط4، المؤسسة العربية ، 1981 م ، ص77-78
[39] ) ) ابن دحية، أعلام
النصر المبين في المفاضلة بين أهلي صفين، تحقيق: د. محمد أمحزون، ط1، دار الغرب الإسلامي، 1998 م ، ص26-30.
[43] ) ) ابن النجار البغدادي، ذيل تاريخ بغداد ،
تحقيق: مصطفى عبد القادر يحيى، ط1 ، دار الكتاب العربي، ١٩٩٧ م، ج5، ص65-68.
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق